• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الرقابة الإلهيّة في حياة الإنسان

العلّامة الراحل السيِّد محمّد حسين فضل الله

الرقابة الإلهيّة في حياة الإنسان

◄يحثّنا القرآن الكريم على الدوام أن نضع في عقولنا وقلوبنا الإحساس بالرقابة الإلهيّة، وألّا نعتبر أنّ أسرارنا مودَعةٌ في صندوق مقفل داخل صدورنا، بحيث لا يستطيع أن يطّلع عليها أحد، فيقول سبحانه: (لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة/ 284). فإذا كنت تستطيع أن تُغلق صدرك عمّا في داخله عن الناس، فهل تستطيع أن تُغلقه وتحجبه عن الله تعالى؟ فالله تعالى مطّلعٌ على الإنسان في خفاياه، كما هو يعرف علانيته (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى) (الأعلى/ 7).

الإنسان مراقَب!

والله سبحانه يستر على الإنسان في الدُّنيا، أمّا في يوم القيامة (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) (الطارق/ 9) فتتمزّق السرائر، ويظهر كلُّ ما يكمن فيها، فإن كان في القلب ممّا يشكّل فضيحة نتيجة الإيغال في المعاصي، فإنّ الله يفضح الإنسان الذي خالف أوامره على رؤوس الأشهاد، وإن كان في القلب ما يشكِّل قيمة إيمانية وعملية، فإنّ الله يجزي صاحب هذه القيمة على رؤوس الأشهاد، ولذلك قال رسول الله (ص): «ألَا إنّ فضوح الدُّنيا أهون من فضوح الآخرة»، لأنّ يوم الآخرة (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) كما يُبلى الثوب ويتمزّق ويظهر الجسد عارياً، هكذا تظهر الأسرار وتنكشف أمام الخلائق يوم القيامة.

وعلى هذا، فإنّ على الإنسان أن يربّي نفسه على أنّه مراقَب في كلّ أعماله وأسراره وخفاياه، فلا يشعر بالأمان والاطمئنان، ويأخذ حرّيته في التخطيط لضرب فلان وهتك حرمة فلان، أو النيل من كرامته وماله وعِرضه (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) (النِّساء/ 108) يجلسون في غرفة مغلقة يخطِّطون ويرسمون المؤامرات ليُلْصِقوا التهمة ببريء، وليدمِّروا شخصية رسالية يطلقون حولها الإشاعات والأكاذيب، ويحسبون أن لا رقيب عليهم ولا حسيب، وينسون أنّ عين الله ترى ما يخطِّطون وكيف يتحرّكون (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (المجادلة/ 7) فليس هناك شعورٌ بالأمان، وذاك الشاعر يقول:

إذا ما خلوتَ الدّهرَ يوماً فلا تَقُل خلوتُ ولكن قُلْ عليَّ رقيبُ

فالله تعالى هو الرقيب «وكنتَ أنتَ الرقيبَ عليَّ من ورائهم، والشاهدَ لِمَا خَفِيَ عَنهم».

فإذا ربّينا رقابة الله في نفوسنا، فسيمنعنا ذلك من استغلال خلوّ المكان للقيام بالجريمة والإقدام على المعصية. ويحدّثنا الإمام زين العابدين (ع) عن ذلك الرجل الذي أحسَّ برقابة الله، وهو يُقْدِم على المعصية، فمنعه ذلك من الوقوع في الحرام، فيقول (ع) لأبي حمزة الثمالي: «إنّ رجلاً ركب البحر بأهله فَكُسِرَ بهم، فلم ينجُ ممّن كان في السفينة إلّا امرأة الرجل، فإنّها نجت على لوح من ألواح السفينة، حتى لجأت إلى جزيرة من جزائر البحر؛ وكان في تلك الجزيرة رجلٌ يقطع الطريق، ولم يَدَعْ لله حرمة إلّا انتهكها، فلم يعلم إلّا والمرأة قائمة على رأسه، فرفع رأسه إليها، فقال: إنسيّة أم جنّية؟ فقالت: إنسيّة، فلم يكلّمها كلمةً حتى جلس منها مجلس الرجل من أهله - أي حاول الاعتداء عليها - فلمّا أنْ هَمَّ بها اضطربت، فقال: ما لَكِ تضطّربين؟ قالت: أَفْرُقُ من هذا - وأومأت بيدها إلى السماء، أي أنا أخاف الله من هذا العمل - قال: فصنعتِ من هذا شيئاً - هل لك عهدٌ بحالة الزِّنا؟ - قالت: لا وعزّته - كلّ حياتي حياة طاعة وعفّة وخوف من الله. قال: فأنتِ تفرقين منه هذا الفَرَق ولم تصنعي من هذا شيئاً وإنّما أسْتَكْرِهُكِ استكراهاً - مع أنّي بالإكراه أحاول فعل الفاحشة معك، ومع ذلك تخافين من الله، وأنتِ في ذلك معذورة - فأنا والله أولى بهذا الفَرَق والخوف - أنا مَن يجب أن أخاف من الله، لأنّني ما تركت معصية إلّا وعملتها - وأحقُّ منكِ - موقف هذه المرأة هزَّ هذا الرجل من أعماقه، ولذلك - قام ولم يُحْدِثْ شيئاً - ترك فعل الزِّنا - ورجع إلى أهله، وليست له همّةٌ إلّا التوبة والمراجعة. فبينما هو يمشي، إذ صادفه راهبٌ يمشي في الطريق، فحميت عليهما الشمس، فقال الراهب للشاب: ادعُ اللهَ يُظلّنا بغمامة، فقد حميت علينا الشمس، فقال الشاب: ما أعلم أنّ لي عند ربّي حسنة فأتجاسر على أن أسأله شيئاً، قال: فادعو أنا وتؤمّن أنت - أي تقول: آمين - قال: نعم، فأقبل الراهب يدعو والشاب يؤمّن، فما كان بأسرعَ من أن أظلّتهما غمامة، فمشيا تحتها مليّاً من النهار، فتفرّقت الجادة جادتين - أي أخذ كلٌّ من الراهب والشاب طريقاً - فأخذ الشاب في واحدة، وأخذ الراهب في واحدة، فإذا السحابة مع الشاب. فقال الراهب: أنتَ خيرٌ منّي، لكَ اسْتُجِيب ولم يُسْتَجَبْ لي، فاخبرني ما قصّتك؟ فأخبره بخبر المرأة، فقال: غُفِرَ لك ما مضى حيث دخلك الخوف، فانظر كيف تكون فيما تستقبل».

فإحساس هذا الشاب بالرقابة الإلهيّة من خلال ما أيقظته فيه هذه المرأة، هو الذي جعله يمتنع عن الاعتداء وفعل الحرام.

الحذر من غضب الله

وهذه الآية تركّز في شعورنا هذه المسألة (وَلِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ) كلّ ما في السموات والأرض، هو ملكٌ لله، وكلّ الوجود والخلق مملوكون له.. وإذا ما اقتنع الإنسان بذلك، هل له أن يفكّر في أنّ أحداً يحميه من الله؟ (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ) (البقرة/ 284) إن تُظهروه (أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) (البقرة/ 284) فالإنسان عندما يعي في داخله التفكير السيِّئ، ويعلم الله منه الإساءة، فإنّه سيحاسبه على ذلك، لأنّه «يُحْشَر الناس على نيّاتهم يوم القيامة»، وعندما يأتي الحساب (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) (البقرة/ 284). وعلى هذا الأساس، لا يمكن للإنسان أن يطمئنّ للأمن والضمانة أنّهما بيده، فكما أنّ الله غفورٌ رحيم، هو أيضاً شديد العقاب، وفي دعاء الافتتاح نقرأ: «وأيقنتُ أنّك أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وأشدّ المعاقبين في موضع النَّكال والنَّقِمة». فهناك توازن (وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة/ 284) هو القادر قدرة مطلقة، لا يستطيع أحدٌ أن ينصرني من دون الله، وهذه هي الحقيقة، وما عداها وَهمٌ وخيال.

وهذا ما يجب أن نربّي أنفُسنا عليه، حتى تبقى النفس في حالة تذكّر دائم لله، وبأنّه مطّلع علينا وعلى أسرارنا، فيمنعنا ذلك عن الدخول في معاصي الله في الخلوات، كما يقول أمير المؤمنين عليٌّ (ع): «اتّقوا معاصي الله في الخَلَوات، فإنّ الشاهد هو الحاكم». فالله تعالى هو الذي يشهد علينا فيما نفعله ونفكّر فيه ونخطّط له، فلنحذر.

شمولية الإيمان

وهناك نقطةٌ أخرى لابدّ للمسلم من أن يعيشها في عقله ووجدانه، وهي الاعتقاد بالإيمان الشمولي (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة/ 285). فالمسلم يؤمن بالأنبياء جميعاً ولا يفرّق بينهم، ويؤمن بالملائكة وكُتُب الله وصُحُف إبراهيم وموسى، وإنجيل عيسى، وتوراة موسى، وزَبور داود، وليس كغيره من أتباع الديانات الأُخرى، يؤمن ببعض ويكفر ببعض. ومن هنا، عندما كنّا نُسأل لماذا تجوّزون زواج المسلم من الكتابية مسيحية أو يهودية، ولا تجوّزون زواج المسلمة من المسيحي أو اليهودي؟ كنّا نقول بأنّ المسلم عندما يتزوّج يهودية أو نصرانية، فإنّها تأمن على مقدّساتها، لأنّ زوجها لن يسيء إليها، لأنّه يؤمن بعيسى وموسى أنّهما من أنبياء الله، وكُتُبهما كُتُب الله التي أنزلها عليهما، أمّا المسلمة، إذا تزوّجت من الكتابي، فلن تأمن على دينها ومقدّساتها، لأنّ هذا الكتابي لا يعيش اليقين بنبوّة محمّد (ص) وبالقرآن، وبالتالي لن يحترمهما ويقدّسهما، وإذا صادف أنّ هذا الكتابي لم يتناول مقدّسات المسلمة بالإساءة، فإنّ ذلك ناشئ من حالة أدبية ذاتية مهذّبة، لا من خلال ما ينطلق فيه من إيمان بعقيدته التي لا تعترف بنبوّة النبيّ (ص)، وبأنّ القرآن مُنْزَلٌ من عند الله تعالى.

فالمسلم، إذاً، يؤمن بالأنبياء جميعاً (لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ) (البقرة/ 285)، لأنّ ذلك أمرُ الله الذي لا يحيد عنه (وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) (البقرة/ 285) المسلم المؤمن مطيعٌ لله في كلِّ ما أمر وما نهى، وليس له حرّيةٌ على الإطلاق أمام حرّية الله (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة/ 285) اغفر لنا ما أسلفنا من السيِّئات، فنحن سنعود إليك ومصيرنا بين يديك، فعندما نعود إليك، نطلب منك أن نأتيَ بين يديك وقد غفرت كلَّ ذنوبنا.

ويأتيهم الجواب من الله (لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة/ 286)، ولأنّهم يعيشون الضعف أمام الله، وقد ينساقون وراء شهواتهم وغرائزهم فتغلبهم مطامعهم، ويوسوس لهم الوسواس الخنّاس، ولكنّهم يعودون إلى الله (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا). فالإصْر هو الحِمْل الثقيل، وذلك كناية عن المسؤوليات الثقيلة الصعبة، ولأنّهم يثقون بالله ويؤمنون به، وإنْ كانت في بعض مراحل حياتهم قد سيطرت عليهم أطماعُهم، يطلبون منه سبحانه أن يخفّف عنهم ذلك ولا يرهقهم (رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ) اجعلنا نحمل الأشياء التي نستطيع حملها (وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا) لا مولى لنا غيرك، ووحدك تنصرنا وتعيننا وتسدّد خطواتنا (فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) عندما نستعدّ لهم ونواجههم، لتبقى كلمة الله هي العليا.

هذا الذِّكر الدائم لله تعالى، هو الذي يربّي عقولنا على الحقّ، وقلوبنا على الخير، هو الذي يربّي حياتنا على التقوى وطاعة الله، حتى لا نسمح للشيطان أن يمرح في ساحات شهواتنا وملذّاتنا ومنازعاتنا وخلافاتنا. فالشيطان لا يقترب من مواقع الذاكرين الذين لا يعيشون الغفلة، ولا يخضعون لغرائزهم، ولا ينسحقون في حزبيّاتهم وعصبيّاتهم.►

ارسال التعليق

Top